يجيء نشر هذا الكتاب تنفيذا لتوصية (مؤتمر
التنمية السياحية في إقليم البتراء) الذي نظمه بيت الأنباط بالتعاون مع سلطة إقليم البتراء على مدار يومين حافلين منتصف شهر شباط (17-18/2/2010) في فندق الكراون بلازا في البتراء.
في هذا المؤتمر
أوصى المشاركون للإعداد لجعل البتراء عاصمة للثقافة العربية. ان هذه التوصية تمثل نقلة نوعية في النظرة للبتراء،
لا كمجرد منتج أثري سياحي فريد من نوعه، وإنما كمركز ثقافي رائد في الحضارة العربية، عمل على تطوير الخط العربي، مقدما بذلك
واحدة من أهم انجازات الثقافة العربية.
البتراء، المدينة الوردية،
التي خلدها
الشاعر البريطاني دين بيرغون بقصيدته المشهورة
التي مطلعها: " تبدو وكأنها ليست
من صنع يد خلاقة"، ها هي أخيرا تنال الاعتراف الذي تستحقه.
لقد طور الأنباط الحرف العربي الذي نستخدمه اليوم في الكتابة.
و
حرف الضاد هو رمز هويتنا الثقافية المميز، الذي نعتز به ونفاخر. هذا الحرف قد اعتمد للكتابة لا في الثقافة العربية، بل
من ما يزيد عن خمس عشرة ثقافة أخرى في العالم. جميع هذه الثقافات، في مرحلة من تاريخها، وبعضها لا يزال حتى يومنا هذا، دونوا تاريخهم وإبداعاتهم الفكرية بهذا الحرف الجميل. وبذا، يخرج الحرف العربي عن إطاره المحلي إلى العالمية. وهذا الحدث، بموجب النظرية الاتصالية وتاريخ الإنسان الاتصالي، يعد انجازا بالغ العظمة، وينم تطويره عن ثقافة رائدة.
تكشف لنا نظريات الاتصال التاريخية والنقدية، ان المراكز التي تطورت فيها
أدوات اتصال، كالأبجدية أو البردي أو
الورق أو المطبعة، وحديثا الحاسوب والأقمار الاصطناعية،
هي مراكز مؤثرة في تطوير الثقافة
الإنسانية عبر العصور. وقد وصف أحد الباحثين المرموقين، وهو هارولد انيس
(Harold Innis)
، هذه المراكز بأنها تحتل مكانة
(إمبراطورية) في تاريخ الحياة، كيف لا وهي التي تركت أثرا كبيرا على العقل البشري وتطور حضارة الإنسان؟
بدون تطوير أدوات الاتصال
هذه، بدءا بالأبجدية، ما كان لحضارة الإنسان أن تزدهر، ولبقي الإنسان غارقا في شفويته وجهله. ولولا الأبجدية لما
وصلت ألينا
إبداعات
سقراط او ابن سينا او الفارابي، او عمر بن أبي ربيعة والمتنبي،
العبقرية،
منذ أقدم العصور، تربطنا بماضينا كأنها كتبت بالأمس. ولولا الورق والمطبعة ما تيسر لنا كتاب بسعر زهيد.
حقا، لقد تسارعت، منذ اختراع الكهرباء، وتيرة تطوير أدوات الاتصال بدءا بالتلغراف (1835م) والراديو والتلفاز وانتهاء بالكمبيوتر والأقمار الصناعية والهاتف المحمول. وغرق الناس في منجزات الحاضر، ونسوا ان هناك تاريخا للاتصال متراكما. وللتذكير: فقد حدد علماء الاتصال أربع ثورات ميزت تاريخ التواصل الإنساني. وهذه هي : ثورة الأبجدية، وثورة المطبعة، والثورة الالكترونية، وأخيرا الرقمية التي نعيش في ظلالها الآن. ينسى الناس
ان تطوير الأبجدية، كتكنولوجيا اتصالية مهمة- بحسب تعبير مارشال ماكلوهان- قد استغرق آلاف السنين، فلذا هو الأغلى والأهم، ذلك ان هذا الابتكار، أسهم في نقل الإنسان وتطوير حضارته ومهد لتطوير أدوات الاتصال اللاحقة.
العرب الأنباط
وثورة الاتصال الأولى
حقق اختراع الأبجدية قبل 3500 عام الثورة الأولى في (الاتصال والمعلوماتية). وتعتبر هذه الثورة حدا فاصلا في التاريخ الإنساني، لأن الحضارة المعاصرة هي وليدة الكلمة التي بدأت مع اختراع الأبجدية. وبهذه التكنولوجيا سجل الإنسان، بالحرفين العربي واللاتيني،
تاريخ حضارته وإنجازاته.
لقد اخترع هذه الأبجدية الكنعانيون القدماء من سكان سيناء. وهي تعرف أحيانا باسم السينائية الأولى
Proto-Sinatic
وأحيانا باسم الكنعانية الأولى
Proto-Cannanite
. هذا الإنجاز الاتصالي الرفيع
جاء في أعقاب محاولات عديدة لتطوير طريقة سهلة للكتابة، بدأت قبلا على أيدي سومريي العراق منذ ستة آلاف سنة، وتلاهم المصريون القدماء الذين طوروا الهيروغليفية. هاتان المحاولتان لم تنجحا في إيجاد أبجدية شعبية سهلة الانتشار بين عامة الناس. لكن فضل تطوير أبجدية شعبية سهلة بقيت قيد الاستخدام حتى الآن يرجع للكنعانيين في صحراء سيناء، الذين أوجدوا الأبجدية الالفبائبة بحرفيها: العربي واللاتيني.
من الكنعانية السينائية تحدّرت الأبجدية الفينيقية التي استخدمها قدماء اللبنانيون، وانبثق منها
أبجديتان:
الأولى، صدّّرها الفينيقيون الى أوروبا عن طريق اليونان وتطورت مع الزمن الى الحرف اللاتيني
Latin alphabet
؛ والثانية، استخدمت في بلاد الهلال الخصيب
وعرفت بالآرامية. وفي المراجع، تحدّر من الخط الآرامي عدة خطوط أبجدية، من أهمها السريانية والنبطية. ويعتقد معظم الباحثين أن الخط العربي الحديث يتحدر من الحرف النبطي، وقلة تقول أنه تحدّر من السرياني.
وفي الكتاب الحالي، وبالاستعانة (بالنظرية التاريخية النقدية في الاتصال والإعلام)، يعمل
الأستاذ
الدكتور عصام الموسى على ترجيح وجهة النظر التي تقول بأن الخط العربي الأبجدي قد نشأ في جنوب الأردن، على يد الأنباط العرب. ومعروف أن الأنباط أسسوا أول مملكة عربية في التاريخ الحديث ازدهرت مدة خمسة قرون، واتخذوا من البتراء المنحوتة بالصخر عاصمة لهم. وبذا يصبح الأردن مهد أهم إنجاز قدم على طبق من ذهب للأمة العربية، أمة الضاد،
ولأمم
أخرى، إسلامية وغير إسلامية،
استعارت الحرف العربي وكتبت به. وبهذا البرهان، تصبح البتراء عاصمة ثقافية للأبجدية العربية . ومعروف ان الحرف النبطي قد انتشر بعد أن تبناه الإسلام وكتبت به لغات أمم أخرى في بلاد عدة منها إيران وتركيا والباكستان والبوسنة،
كما كتب به الحرف العبري في مرحلة ما.
البتراء عاصمة ثقافية عالمية
أن التوصية التي اجترحها
مؤتمر مستقبل التنمية السياحية في إقليم البتراء، وهي توصية صدرت عن مؤتمر علمي ضم نخبة من الباحثين الأردنيين الذين يعشقون البتراء، وقضوا السنوات الطوال في درس مجدها المتجدد، وأفضل الطرف للحفاظ عليها،
تعطي البتراء-أو الرقيم كما أسماها أصحابها-
حقها الذي تستأهله عن جدارة، وترقى بها مركزا ثقافيا نفاخر به ونعتز. أن وضع رداء الثقافة على البتراء يزيد من مهابتها، لا في ثقافتنا فحسب، وإنما في نظر السائح الأجنبي، حين يكتشف ان الحرف اللاتيني، مثل الحرف العربي، نبع من مصدر واحد، هو الكنعاني السينائي، وإننا بذلك علمنا الإنسان الغربي القراءة والكتابة بأبجدية سهلة، وان لنا فضلا ثقافيا عليهم لا يمحي.
وبذا نرد على كثير من حملات ظالمة تطعن في ثقافتنا ومجدنا التليد.
فهل سيأتي اليوم الذي تصبح فيه البتراء عاصمة دائمة، ومحجا أبديا،
للثقافة العربية؟؟؟