هل الانباط عربا؟

  جون هيلي _ جامعة در هام

ترجمة : الدكتور عمـاد الحجــازين

تحرير ومراجعة :الدكتور باسم الطويسي

 

على الرغم من أن الحكمة تقتضي التسليم بأن ذاك الشعب القديم الذي سمي الأنباط كان في الحقيقة شعب عربي ، ألا انه قد ورد لي أكثر من مرة ، وخاصة أثناء زياراتي الى المناطق التي تتحدث السريانية في سوريا والعراق بأن أولئك الأنباط آراميون وليسوا عرباً مثلهم في ذلك أغلبية سكان مدن تدمر وأوديسا ، فالأجيال الحديثة المنحدرة من أصل أرامي تفخر بإرثها كما هو الحال لدى الشعوب العربية الأصل .

 
 أن مسألة (عرق) أصل الأنباط يجب أن تطرح بطريقة علمية محضـة ، وهنا من الأفضل  الابتعاد عن وجهة نظر القومية العـربية أو الآرامية وخاصـة وأن محـددات أصل الأنباط وخصائصهم العرقية لم تبحث بطريقـة تصنـيفية وعلى الأقـل في السنوات   الأخيرة وهذا البـحث يقتـرح إعادة تفحص هذه المسألة . 
 
 1) المقدمات 
     أ ) من البديهي عند تحديد الأصـول العرقية وصلاتها لشعب قديم مع الاعتراف مسبقاً بأنهادائماً مسألة في غاية الصعوبة .  وما الدليل الوحيد والهام حولها ألا ما قالته تلك الشعوب عن نفسها وما قالته الشعوب الأخرى فيها ، فعادات الشعوب وتقاليدها بما فيها المعتقدات الدينية وخاصة إذا كانت مميزة ومختلفة عن ما هو سائد في البيئة والمحيط العام فهي قد تعطي معلومات مهمة جداً  مثل ما قد تقدمه دراسة عملية للخصائص لشعب ما ، وبشكل عام اللغة مثل الدين لا تعد مقياس فاصل ، حيث هناك العديد من الأمثلة عن شعوب أصلها واحد ولكنها تتحدث لغة شعب أخر وتدين بديانة أخرى ( لكن هذه الشعوب حتى عند تخليها عن لغتها التقليدية فهي   غالباً تحتفظ بأسمائها الشخصية المميزة ) مثال ذلك رجل أصل عائلته ايرلندي وديانته الكاثوليكية علماً بأن غالبية الكاثوليك في بريطانيا من أصل أيرلندي ، فهل ديانته هي الدليل في الرجوع الى معرفة أصله ، انه دليل قد يكون غامضاً ، فهناك عائلات كاثوليكية في بريطانيا غير أيرلندية الأصل ، كما أن هناك عائلات وديانات أخرى ) وأحياناً قد نستدل على الأصل من خلال أسماء الأشخاص وإذا طبقت هذه النماذج على شعب قديم ، نرى أن هناك بعض الصعوبات تواجه في طريق التوصل الى نتائج ثابتة ، فالخصائص الفيزيائية لشعب قديم لا يمكن دراستها بطريقة علمية محضة وبالتحديد في حالة الأنباط والعرب القدماء ، ويمكن ملاحظة بعض الأعمال التي قد نفذت على الخصائص الفيزيائية للبقايا البشرية في المقابر التدمريه . فاللغة ليست دليل أكيدا ، بينما الأسماء والديانة ومفاهيم حضارية تشكل مفاتيح الحقائق الأكثر سهوله والأفضل لتحديد الحقائق .
 
 ب ) قبل أن ننطلق في هذه العملية علينا أن نحاول تعريف بعض المصطلحات الاساسية المستخدمة في هذه المناقشة وأولها ماذا تقصد بالأنباط .   

    الأنباط : مجموعة محددة الهوية استوطنت جنوب الأردن في القرن الرابع قبل الميلاد ، كانوا يطلقون على أنفسهم أسم (نبطو) والغرباء يسمونهم أحياناً بنايوي (باليونانية) وهناك أسم أخر لقبيلة تدعى (شلمو) يتداخل أحياناً مع مصطلح (نبطو) . وكانت مدينة البتراء (الرقيم) هي المركز الحضاري الضخم لهذا الشعب . ولقد توسعوا شمالا نحو سوريا الحديثة وغرباً الى فلسطين ، وجنوباً الى العربية السعودية الحديثة ، وفي النهاية فهم شعب أسس مملكة ازدهرت في القرن الأول قبل الميلاد وبقيت حتى استولى عليها الرومان في عام 106م ، وخلال هذه الفترة أنجز الأنباط مبان تمتاز بفن معماري عالي الجودة وقبور ذات أشكال مميزة وتضمن نظامهم الإداري المزايا القبلية والرمانية ، وبالإضافة الى العديد من النقوش التي كتبت بالخط النبطي المميز ولكنها لغوياً أقرب الى الآرامية القديمة في الفترة الفارسية أو الاخمينية .

 

 ماذا نقصد بالمصطلح آراميين ؟ الآراميون كانوا يعرفون كمجموعة جديدة من المستوطنين ظهرت في شمال سوريا بعيد انهيار إمبراطورية الجيش في سنة 1200 ق.م وجاء هذا الشعب يحكم في تلك المنطقة ولم تستطع حتى الإمبراطورية الآشورية في تقدمها نحو الغرب طمس معالمهم كلياً وكان لديهم في الواقع العبقرية الكافية التي جعلت الآشوريين يستفيدوا منها، وبالتحديد في اللغة حيث انتهى الأمر بالآشوريين الى استخدام الآرامية   لغة للدبلوماسية والتجارة ثم فعل الفرس لاحقاً نفس الشيء . انه من الصعب تصوير الفن والدين الآرامي ، ولكن هناك معالم مميزة تمكن الباحث من رسم صورة تمهيدية . فالديانة الآرامية بقيت غامضة الى حد ما ، ولكن كان هناك عبادة وتقديس شديدين للإلهين ( بعل شامين وحداد ) كذلك فالعديد من الأسماء الآرامية الشخصية معروفة ويمكن أيراد خصائصها بالتحديد .

 

 وبعد انتهاء إمبراطورية الاسكندر الكبير بقيت اللغة الآرامية مستخدمة طوال الفترة التي كانت فيها المشرق العربي ( الشرق المتوسط ) متراجعاً نحو السقوط ، ثم طورت كل مدينة الشكل الخاص بها من الخط الآرامي ، وهكذا انتشرت اللهجات المختلفة خاصة وأن المنطقة لم تعد موحدة .

 

ماذا نقصد بمصطلح العرب ؟  

    أن مصطلح العرب من الصعب تحديده في النصوص القديمة قبل الفترة الإسلامية ،و يبدو انه مصطلح استخدم من قبل الآشوريين و البابليين ويألف الكتاب المقدس ذكره كمصطلح عام للإشارة للشعوب البدوية التي سكنت الصحراء ابتداء من القرن التاسع قبل الميلاد ، كما دخلت شعوب حديثة الى المناطق المأهولة من الهلال الخصيب وأقامت فيها مراكز تجارية وهذا الوجود واضح في أماكن   مثل تدمر في القرن الأول للمسيحية ، حيث وجدت بعض آلهة العرب وأسمائهم الشخصية المميزة ، كما أن الديانات العربية قبل الإسلام مثبتة في العديد من المصادر بما فيها القـرآن ويورد أبن الكلـبي في كتابة (( الأصنـام )) بعض أسمـاء الآلهـة مثل : (الله ، اللآت ، العزة ….الخ ) .

 

 كمـا أن الأسماء الشخصية العربية معـروفة في الفترة اللاحقة ومنذ مرحلة ما قبل الإسلام ، بينما الصعوبة الأساسية في تعريف من هم العرب ؟ هي في أي معلوماتنا تميل للتعريف بقبائل فرديـة . أي انـه ليس من السهـل التحدث عن العـرب ككيان مميز واضح   المعـالم قبـل الإسـلام .

      على أي حال فأن المعالم الرئيسية للمجموعات العربية المتعددة واضحة ومتماسكة ، لهذا نستطيع الحديث عن قبائل شمال الجزيرة العربية من الثقافة الأساسية المشتركة ، والتراث اللغوي المشترك ، مما تميزهم عن شعوب جنوب الجزيرة وعن الشعوب السامية العربية من ناحية أخرى ( مثل الآراميين والعبرانيين وغيرها ) .

      أن الافتقار الى الاتحاد السياسي قبل الإسلام لا يفي حقيقة أن عرب شمال الجزيرة شكلوا في الواقع كياناً متميزاً .
 

2)  الدليـل

    أن المقدمات السابقة تهيئ الأرضية المناسبة لموضوع هذه الدراسة الجزء الأول من موضوع النقاش يمكن رؤية بشكل ملائم بالنظر الى الخريطة رقم (1) فالمناطق المظللة تشير بشكل تقريبي الى المناطق التي كانت الآرامية مستخدمة فيها منذ أن ازدهرت ابتداءً من القرن العاشر قبل الميلاد الى الفتح العربي .
   فمن المعروف أن الآراميين قد استوطنوا في هذه الفترة والدليل على ذلك يأتي من مصادر غير آرامية ، بالإضافة الى الديانة والأسماء الآرامية المميزة . وسوف نرى أن ثمة تناقض بين ظاهرتين .
  في المناطق الواسعة حيث تستخدم اللغة الآرامية يتضح أن الشعوب الأصلية فيها لم تكن آرامية ، فالفرس والبارتين أمثلة واضحة على ذلك ، كما فعل ذلك حكام الهند ، واستخدمها اليهود لغة خلال تخليهم التدريجي عن العبرية ، وفي الحقيقة فأن اللغة الآرامية آنذاك احتلت مكانة اللغة الإنجليزية في العالم المعاصر .

أ )   ماذا قال الأنباط عن أنفسهم ، وماذا قال عنهم الآخرون ؟        

أن روايتهم الخاصة بأنفسهم غير مكتملة ، فقد نادوا أنفسهم أفراد قبائل النبطو أو سلامـو ،   وفي المصادر الآشورية والبابلية هناك إشارات الى عرب في منطقة الأنباط   ولكن هذا غير نهائي على أي حال فالمصادر اليونانية وصفت الأنباط دوماً بالعرب .

ب) تملك الديانة النبطية بعض الخصائص غير المتوقعة التي تظهر روابط مع ديانات   ما قبل الإسلام في الجزيرة مثال ذلك الآلهة هبل الذي ورد ذكره في كتاب أبن الكلـبي   مكـي ، كما أن ( اللآت ) تعبر أيضاً في مكة بينما يتوج الأنباط الآلهة   "ذو الشرى "   على رأس الآلهة جميعـاً. من ناحية أخرى لا يوجـد أي أثر لآلهـة الآراميـين أمثـال حداد وبعـل تشمـين .

 

ج ) بمقاربة هيئة مجتمع الأنباط بالمجتمعات الأخرى يمكن ملاحظة ( بالاعتماد على المصادر اليونانية "ديودور الصقيلي" ) أن الأنباط كانوا بيئة ثقافية بدوية /قبلية . فقد كانوا رعاة يعيشون بسعادة في الصحراء ، وتكشف النقوش النبطية معالم العائلة والمؤسسات الرسمية التي تشير الى تركيبة قبلية تقليدية ، بينما الآراميون وهم من أصل بدوي ألا أنهم استوطنوا في مراكز سكنية كبيرة مثل دمشق في مرحلة مبكرة ، وفي الوقت الذي استوطنوا فيه الأنباط جنوب الأردن ، كان الآراميون . يعيشون في المدن والمزارع منذ فترة .

 

د ) عند تحليل الأسماء الشخصية النبطية فأن أغلبها ذو طابع عربي مع أن هناك نسبة قليلة منها يونانية وآرامية ، وأكثر نموذج يميز الأسماء التي تنتهي ب (و) أنها مبهمة الى حد ما ، ذلك لان هذه المعالم ليست عربية أو آرامية .

 

هـ) أن الآرامية المستخدمة من قبل الأنباط ليست بعيدة كثيراً عن آرامية الإمبراطورية ، لكنها متأثرة بلهجة عربية من الشمال ، ليست آرامية ولكنها قريبة نسبياً الى العربية الكلاسيكية ، وهذا جليّ في التحام بعض المصطلحات التي تبدو من أصل عربي من جهة نظر آرامية .

وانطلاقاً من جميع هذه الاعتبارات يتضح أن الأنباط لم يكونوا آراميين ، وأن الأدلة المقترحة تشير الى أنهم في الحقيقة كانوا عرباً بشكل أو بآخر .

 

3 )  السياق التاريخي

  هل من المؤكد تاريخيـاً أن الأنبـاط عرب ؟ كيف يمكن أن تقـدم بيانـات تدل على هذه الحقيقـة تاريخيـاً ؟

 هناك العديد من الأدلة التاريخية عن وجود العرب في منطقة الأنباط تعود الى القرن الثامن والسابع قبل الميلاد ، كما أن الوجود العربي يتضح من النقوش السمارية ومن الكتاب المقدس ومن المصادر اليونانية ومن أدلة تاريخية أخرى .

 

كان هناك شعوب أخرى تعيش في هذه المنطقة من بينهم الآدوميين وحقيقة أن العرب لم يكن ظهورهم الأول مع الإسلام ، تظهر هذه الحقيقة في العديد من الكتابات فبعض هؤلاء العرب (قبل الإسلام) استخدموا لغات أو لهجات مثل الثمودية أو اللحيانية أو الصفوية ولكن البعض الأخر استخدم الآرامية ، كما توضح ذلك النصوص والنقوش الآرامية على السلطانية التي وجدت في اسفل مصر في تل المسخوطة والتي تؤرخ الى 400 ق.م وتحمل اسم قيدار ملك العرب ( فينو أي جاشم ) كما أن هناك العديد من النقوش الآرامية المهمة التي وجدت في منطقة تيماء وتعود للقرنين الرابع والخامس قبل الميلاد .

 

والحقيقة الواضحة أن العربية وفي كل الأحوال تطورت تدريجياً من الآرامية كلغة يومية في المنطقة خلال القرون الأولى   للفترة المسيحية ، وتعزز هذا الاعتبار كما هو واضح في النقوش النبطية العربية .

 

الخـاتمـــة 

   لا يمكننا في خاتمة هذا البحث أن نتفادى القول بأن الأنباط أقرب في الأصل الى العرب منه الى الآراميين ، وفي الحقيقة فأن الأدلة اللغوية للتأثير العربي على النبطية الآرامية ، يشير الى أن الأنباط قد تحدثوا أحد أشكال العربية ، بينما استخدم الفرس الآرامية للأغراض الرسمية وبخاصة في الكتابة . كما يجب أن لا ننسى أن العربية لم تكن بعد لغـة مكتوبة في هذه المرحلة ؛ فالآرامية هي لغـة الحضارة آنذاك من وجهة نظر بدوية والكتابة العربية الكلاسيكية تطورت من الكتابة النبطية .

 

  إلى جانب ذلك ، من الصعب أن ننسب الأنباط الى فرع عربي معين منهم وجدوا على شكل تجمعات متعددة في تلك المراحل ، ومن الأمور القابلة للنقاش في هذا السياق ، أن الأنباط لم يكونوا من نفس الجماعة العربية المتشابهة التي ساهمت في وضع الشكل الكلاسيكي للغة العربية ففي الحالة الأولى في اللغة العربية – النبطية لم يكن للتعدد معنى ولم يدم طويلاً ،   لابد أن الأنباط كانوا إحدى هذه التجمعات .

 

ومن المهم أن لا انبثق المبالغة في هذه الخاتمة بربطها بمجالات أخرى، فحقيقة أن الأنباط كانوا عرباً ، تعني بالضرورة أن كل من استخدم الآرامية في تلك الفترة كان عربياً . في تدمر تشير الأدلة الى اتجاه آخر فغالبية السكان كانوا آراميين بينما العرب أقلية وهذا أيضاً مثبت ويظهر بشكـل أوضـح في أوديسـا وحتى ، وامتدت الأخيرة في مجال ثقافي مختـلف تمامـاً .   

 

  أن أدويسا كانت بالطبع مصدر اللغة السريانية والثقافة المسيحية المتصلة بها ، ففي أوائل   القرن الميلادي الأول كشفت في هذه المنطقة نقوش تحمل حقيقة تتصلبان بموضوعات هي :

            أ ) مكان لسكان عرب في منطقة أوديسا على الرغم من وقوعها الى الشمال من الجزيرة ، والأسماء الشخصية التي وجدت هناك تشير الى حقيقة وجود عربي في المنطقة والى وجود مسؤول معين يهتم بشؤونهم

            ب) إذا حكم على أصل السلالة الحاكمة في أدوسيا من خلال الأسماء الشخصية وعدوا العرب قديماً