الصدى في وسائل الاعلام

العودة إلى الأنباط البلاد

البلاد: 14/7/1999

عبد الله أبو رمان

 

وسط تظاهرة علمية إعلامية ثقافية شهدت الأسابيع القليلة الماضية جملة من المؤتمرات والنشاطات والكتابات الصحفية التي ركزت على دراسة حضارة الأنباط ومعالمها، ودورها التاريخي في التأسيس للكيان العربي وتحديد ملامح الحضارة العربية ككل.

الهيئة العربية للتواصل الحضاري " بيت الأنباط " كان له ممثلا بالقائمين عليه، الفضل الأكبر في أحداث مثل هذه التظاهرة الثقافية الكبرى،  وقاد موفقاً الجهود وعمليات التنسيق التي ساهمت بها بعض المؤسسات لإنجاح هذه الحركة، التي سلطت بعض الضوء على حقبة هي الأهم تاريخ الجغرافيا الأردنية.
                               

  جهود واضحة

"البلاد" شاركت بدورها في هذه التظاهرة التي تكللت بعقد مؤتمر الأنباط الأول في مدينة البتراء وتمكنت من رصد حجم الجهود والأداء المتميز للقائمين على المشروع الثقافي الأول من نوعه، وكذلك النجاح الذي حققه هذا الأداء، رغم مساعي البعض لتجيير الفعاليات لصالح مواقف سياسية، وقد تمكنت هيئة بيت الأنباط ، من تفويت الفرصة على من وقفوا وراء هذه المساعي.

وفي نفس السياق حظيت الوفود المشاركة من أكاديميين، إعلاميين، ومثقفين بتعاون منقطع النظير وكرم عربي أصيل، من قبل أهالي وادي موسى، وبشكل خاص من إدارتي فندقي "أدوم" و"بترا إن" وهو ما ابرز حجم الإدراك الشعبي لدى سكان المنطقة لأهمية هذا المؤتمر ودوره.

وفي حين ركز عدد من الكتاب الأردنيين على أهمية عقد هذا المؤتمر في هذا الوقت تحديداً وخدمته الجلية للوجود الأردني، عبر تأصيله وتجذيره فضلا عن خدماته على صعيد تثقيف الخطاب السياحي الأردني، وتسليط الضوء على القيمة العلمية والمعرفية للمواقع الأثرية في الأردن وهو ما يفتقر إليه هذا الخطاب الذي يكتفي بتسويق مواقعنا من خلال"البوسترات" والدعايات التقليدية.

وقد تحدث لـ "البلاد" رئيس هيئة بيت الأنباط باسم الطويسي وقال في معرض تعريفه بالهيئة وأهدافها:

إن فكرة تأسيسها جاءت بعد سلسلة من حوارات استمرت اكثر من عام ونصف العام بين مجموعة من المثقفين والأكاديميين الأردنيين، بعدما تبين مدى غياب التجذير الحضاري والتاريخي للهوية القومية في الأردن.

 

  غياب التجذير

وقال الطويسي: أن هناك جملة من الأسباب الموضوعية التي أدت إلى هذه الظاهرة "غياب التجذير للهوية القومية" من أهمها تأخر ظهور النخب الأردنية المثقفة في القرن العشرين عندما كانت تصاغ النظرية القومية المعاصرة وحتى الى الوقت الذي تحولت فيه النظرية الى مشروع ايدلوجي في الخمسينات.

والسبب الثاني تكوين النظرية القومية العربية المعاصرة ذاتها وما شابها من إرباك وتنازع في الشرعيات القطرية بين قادة الفكر والرأي إبان تشكل الكيانات القطرية العربية المعاصرة أما السبب الثالث: فهو غياب مبحث التكوين التاريخي للامة العربية وعدم نضوجه للوقت الراهن.

وتابع الطويسي: لهذه الأسباب كان حجم الجغرافيا الأردنية ضئيلا بمضامينها الحضارية والتاريخية وكاد يختفي من معجم الفلسفة القومية العربية المعاصرة.

ويضيف الطويسي: وعلى هذه الخلفية جاءت الحوارات سابقة الذكر بعد أن تأكدت باليقين العلمي الأهمية البالغة والدور الانقلابي الكبير للجغرافيا الأردنية في حركة التكوين التاريخية للامة العربية، التي قادها الأنباط   العرب قبل اكثر  من ثلاثة آلاف عام. وهذا يعني للمرة الأولى الدعوة إلى وعي جديد،يطيل في عمر رشد ونضوج الأمة، لأكثر من "1500 عام" وهذا الفارق بين الدراسات السابقة وما ندعو إليه.  

    

بين النبطية والفرعونية

وحول العلاقة بين الدعوتين "النبطية " و"الفرعونية" في مصر ومدى ارتباطها بدعاوى الانعزال قال الطويسي: إن الدعوة إلى الوعي الجديد للدور الحضاري والتاريخي للجغرافيا الأردنية قومية في صميمها تبتعد كثيراً عن الشعارات السياسية الوقتية الرخيصة ففكرة إنشاء بيت الأنباط هي رد على التركات المخجلة للدعوات الجهوية والمحلية الضيقة، من قبل الدعوة الفرعونية أو الفينيقية وغيرهما فالعرب الأنباط لهم الفضل في وضع اللبنة الأساسية في تحول الجماعات العربية الهامشية، الشيء الذي عنى بداية مشروع الجماعة القومية التي أسست الدولة، فيما أدت الأخيرة دورها في استكمال بناء الأمة.

وأكد الطويسي إننا نؤمن في بيت الأنباط أن الثقافة اعظم واكبر من المخاضات السياسية وان الحضارة اقدس من دمية السياسة.
 

 بيت الأنباط      

وأضاف الطويسي: وبناء على هذه الخلفيات وبعد سلسلة حوارات طويلة شكلنا هيئة تاسيسية من المثقفين والأكاديميين الأردنيين، وحصلنا على موافقة من وزارة الثقافة وسعينا فيما بعد بالإجراءات الإدارية والمالية.

وحول أهداف الهيئة قال الطويسي: تهدف الهيئة إلى الاهتمام بالحركة الثقافية الأردنية، بالعمل على خصوصيتها المحلية، وربطها بهويتها والإسهام في نشر قيم الوعي والتكوين الحضاري والإنساني للثقافة العربية، واستلهام تاريخ الأنباط ، أنموذجا في الدفاع عن قضايا الوطن والأمة ثقافياً. وأضاف: وتهدف الهيئة إلى   الإسهام في نشر الوعي بقيمة المدن التراثية وبقضايا البيئة  الحضارية في الأردن والدفاع عنها والعمل على إبراز أهميتها إضافة إلى إظهار قيمة البعد الثقافي في التسويق السياحي، وتنظيم البرامج الكفيلة بذلك.

وأكد الطويسي: إن هذا البعد مفتقد في الخطاب السياحي الأردني الحالي، وقال: لدينا رؤية واضحة وإمكانيات كبيرة للعمل في هذا الاتجاه، وفي هذا السياق جاءت الدعوة إلى عقد مؤتمر الأنباط .  

 

  اصل الأنباط   

وجاء في ورقة عمل قدمها الباحث العراقي محمد جاسم المشهداني: يعد تاريخ الأنباط وتراثهم إرثا حضارياً قومياً، يعتز به كل عربي. وبالنظر لتعدد وتنوع الآراء حول أصلهم فقد اخترت هذا الموضوع إذ لا بد من التأكيد على أصالة هذا الإرث القومي من خلال تأصيل ما يتعلق بالأنباط، اسماً، واصلا ومواطناً لان هذا يعد أحد الأهداف التي نسعى إليها كمؤرخين عرب من خلال تأكيدنا على إعادة كتابة تاريخنا القومي، ولسنا بحاجة إلى تحميل النصوص والوثائق المتعلقة بالموضوع اكثر مما تتحمل وإنما عرض الحقائق المتيسرة عن الموضوع بأمانة ومصداقية البحث التاريخي المتعلق بالأنباط .

فقد أكدت النصوص التاريخية أن تسمية النبط عربية الأصل والاشتقاق إذ عبرت مهنة هؤلاء العرب الذين استنبطوا الماء في ظروف جغرافية وطبيعية صعبة، بحيث تمكنوا من التغلب عليها وشيدوا دولة كبيرة شملت مناطق واسعة وكان لاستنباطهم الماء اثر في بناء دولتهم وتوسعها.

كما أكدت اغلب المصادر والمراجع التاريخية على الأصل العربي للأنباط ، وجرت متابعة هذا الموضوع بشكل دقيق عبر مختلف الروايات التي تنوعت في الحديث عن الموطن العربي الذي هاجروا منه، مع اتفاقهم على عروبتهم.

فأشارت بعض الروايات إلى أن أصلهم من العراق كما يشير إلى ذلك المسعودي بقوله:"نمرود بن ماش هو الذي بنى الصرح ببابل، وجسر جسراً ببابل على شاطئ الفرات .. وهو ملك النبط ".

إذ هاجر النبط كغيرهم من العرب الذين كانوا يسكنون في بابل بعد تبلبل الألسن فيها وازدحامهم بهم، وكانت هجرتهم باتجاه اليمن والحجاز وبلاد الشام، في حين بقي قسم منهم بالعراق، وعندما سئل الإمام علي بم أبي طالب" رضي الله عنه" من قبل أحد الناس:" اخبرني عن أصلكم معاشر قريش: قال نحن نبط من " كوثى".

فقال قوم أراد " بكوثى" السواد التي ولد فيها إبراهيم الخليل، وقال آخرون أراد فيها تلك التي بمكة، وذلك أن محله من عبد الدار يقال لها كوثى، ولو أراد كوثى مكة لما قال نبط.

عندما جاء خالد بن الوليد إلى العراق في قيادته للفتوحات العربية الإسلامية، قال لعبد المسيح بن بقيلة: "أعرب انتم أم نبط؟ فقال: عرب استنبطنا".

كما وردت إشارات إلى انهم هاجروا من جنوب الجزيرة العربية، وتحديداً من اليمن، استدلالا بقرائن تاريخية متشابهة سواء في الأسماء أو العبادات أو بعض التقاليد في حين هناك مرويات تشير إلى كونهم من عرب شمال الجزيرة ولعلهم اقرب الدول القديمة إلى عرب الحجاز.

فهذه المرويات تؤكد أن الأنباط عرب انتقلوا من طاب البداوة والترحال إلى حياة الاستقرار والتحضير،وبالإمكان إيراد بعض الأدلة التي تؤكد عروبتهم،منها ما ذكرناه حول هجرتهم من مناطق عربية الهوية واللسان،ولا يوجد هناك رأي يتعارض أو يتقاطع مع هذه المرويات،إذا ما علمنا أن الله تعالى بعد الطوفان الهم العرب هذا اللسان العربي،وقد كانت لغتهم واحدة من لهجات عرب الشمال ويشبه في تركيبها النحو العربي،ومن ثم تأثرت باللهجة الآرامية التي كانت سائدة في المنطقة،رغم أن اللهجات الآرامية تأثرت بقوة باللغة العربية،وان تركيب لغة الأنباط يشبه دوماً النحو العربي المعروف،أما خطها فهو مشتق من الفينيقي وحوره الأنباط وصقلوه تدريجياً حتى اصبح قائماً بذاته،ومنه انحدر الخط العربي الكوفي،حتى قال الدكتور نبيه عاقل:" ويمكن القول بشكل قاطع أن الخط الكوفي،ومن بعده الكتابة العربية يعودان إلى الحروف النبطية".

فضلا عن ذلك فقد كان تداول الأسماء العربية عند الأنباط مثلما كان موجوداً عند العرب سواء في اليمن أو الحجاز أو العراق،والجزيرة العربية عامة،ومنها حارثة مالك، مليكة، جذيمة، كليب، وائل، مغيرة،   قصي ، عدي ، عائذ ، عميرة ، يعمر، كعب، معن، سعد، مسعود، وهب،الله ،تيم الله ،وعلي.....الخ.

كما عبد الأنباط بعض الآلهة التي كانت في بعض مناطق الحجاز وخاصة في مكة كاللات والعزى وهبل، حتى أن هشام بن الكلبي"204 هـ" ذكر أن عمرو بن لحي هو الذي ادخل عبادة الأصنام إلى مكة وجاء بها من الأنباط.

أما الموطن الذي بنى فيه الأنباط دولتهم فهو عربي حتى عرفت أرضهم باسم:"الأرض العربية الحجرية" وفيما بعد "المقاطعة العربية" بل أن بعض ملوكهم كان يلقب بـ "ملك العرب" وكان امتدادهم السياسي والعسكري أيضا باتجاه توحيد أراض عربية تحت قيادتهم.

وبذلك تؤكد المرويات التاريخية على عروبة الأنباط اسماً، واصلا وموطناً إذ تركوا بصماتهم على حركة التاريخ العربي في الحقبة التي عاصروها ليكونوا بذلك إحدى الحلقات المهمة في تاريخ الأمة وليؤكدوا من خلال ذلك انتماءهم إلى جيل من أجيالها.

     

ملوك الأنباط  

 

وأيضا قدم المؤرخ إسماعيل عموري دراسة عن التاريخ السياسي لدولة الأنباط وأكد أن ابرز ما تتجلى فيه مظاهر الحياة في هذه الرقعة الجغرافية، وفي حقبة زمنية كانت حافلة بالأحداث بحكم العلاقات القائمة آنذاك بين الملوك الذين حكموا هذه المملكة،والدول المجاورة وما يتبع ذلك من عناصر القوة والضعف من عقد زمني إلى آخر،وحسب قوة الملوك ممن قادوا زمام السياسة والإدارة،وممن تصدوا لمواجهة المشاكل الداخلية أو ممن وقفوا بوجه الأطماع الخارجية.

ومن خلال تتبع دقيق لسلسلة الملوك الذين حكموا دولة الأنباط ،ووجهوا فيها مسيرة الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية،فإننا سوف نقف على جملة من النشاطات العظيمة التي سوف تكشف عن بنية تنظيمية كان قادتها مجموعة من الملوك الذين وجهوا حركة النشاط السياسي، فنجم عن ذلك صورة واضحة المعالم سجلت لنا تاريخاً عكس طبيعة الحياة بكافة جوانبها وأرّخت لأعمال كل ملك ممن تتابعوا في قيادة الأنباط.

وقد تمكن الباحثون في تاريخ النبط من حديد أسماء جملة ملوك حكموا النبط، إلا أن الدراسات التاريخية والكشوفات الاثارية إشارات إلى أن"حارثة" أو "الحارث" الأول كان أول ملوك الأنباط في حدود سنة 169 ق.م.

إلا أن هذا ليس من الضروري أن يكون أول ملك نبطي وقد اشتهر في موقفه من اليهود وتصديه لمحاولاتهم في السيطرة على المملكة.

وتشير الدراسات أيضا إلى اتعاب مجموعة من الملوك الذين كان لهم الدور الكبير في تجسيد قوة المملكة بما قدموه من أعمال كبيرة،كما هو في عهد الملك"الحارثة الثاني" في حدود سنة 100 ق.م الذي استطاع أن يبسط نفوذه،ويسك النقود ويسيطر على طرق القوافل التجارية.

وكذلك "عبادة الأول 95 – 88 ق.م" هابته ملوك الدويلات المجاورة،وكذلك أرب ايل الأول"88- 87 "ق.م الذي أسس جيشاً قوياً لحماية المملكة من الأخطار الخارجية،و"حارثة الثالث 87- 62 ق.م" الذي قوى نفوذه وضم مجموعة من المدن لتكون تابعة للنبط، وسك النقود التي رسمت عليها صورته،وهذا من أدلة القوة الاقتصادية والسياسية التي كان يتمتع بها،وهكذا استمرت مملكة النبط يحكمها سلسلة من الملوك الذين كانت أعمالهم تتراوح ما بين قوة وضعف،إلا أن مظاهر القوة كانت هي الغالبة أو السائدة بسبب عامل النشأة التي تمرسوا عليها،فبنوا توجهاتهم على المحافظة على قوة المملكة لتكون مهابة،فكان هذا من توجهات الملوك"مالك الأول 62- 30 ق.م" و"عبادة الثاني 30- 9 ق.م"،حارثة الرابع 9- 40 بعد الميلاد،مالك الثاني 40- 70 بعد الميلاد، ورب ايل الثاني 70- 106 بعد الميلاد، فقد طالعتنا المصادر التاريخية والاثارية عن هذه النشاطات السياسية لهؤلاء الملوك،وأعمالهم الخالدة وكيف كان تعاملهم مع اليهود،اليونان والرومان،وكيف استطاعوا تأسيس قوة اقتصادية متينة تقف خلف سيطرتهم على المنافذ التجارية وطرقها وفي ضربهم النقود النبطية، وفرضهم الجزية على أمراء المدن والممالك المجاورة، وإعدادهم لجيش محارب يدافع عن المملكة ضد الأخطار الخارجية. كما تبع كل ذلك استقرار داخلي ظهرت آثاره في الأعمال التي قدمها هؤلاء الملوك النبطيون في رعاية المصالح العامة،في المجتمع فنشطت الزراعة،شق القنوات الاروائية،إصلاح الطرق التجارية،إقامة الأسواق،تشييد البناء،وتنشيط العمران.

لقد أشارت الدراسات والمكتشفات الأثرية إلى مجمل هذه النشاطات،وتحدثت عنها بدقة كبيرة وأظهرت أهمية دراسة هذه المملكة العربية التي كان لها الشأن في حقبة من الحقب التاريخ الحضاري للامة عبر مسيرتها وتكوينها التاريخي منذ اقدم العصور.